بقلم : محمد العماري
الرباط، 9 ماي 2025
في رواق مؤسسة محمد السادس بالرباط، افتتح الفنان التشكيلي المغربي مصطفى بلقاضي معرضه الفردي الجديد تحت عنوان مثير للدهشة والتأمل: ” صدى المفرد”. عنوان يبدو للوهلة الأولى متناقضًا، لكنه يختزل في طياته سؤالًا فلسفيًا وفنيًا عميقًا: كيف يمكن للفرد أن يتكلم من داخل الجماعة دون أن يُذوَّب فيها؟ وكيف يتجلى الجمع من خلال وجوه وأجساد محددة تحمل ذاكرة، صوتًا، وانفعالًا خاصًا بها؟
يتكون المعرض من أعمال فنية متقاربة في موضوعها، لكنها متباينة في مقاربتها التقنية والجمالية. ثلاث لوحات مركزية تشد الزائر مباشرة إلى عوالم من النغمة الشعبية، من عبق التراث الشفهي الموسيقي الذي يشكل جزءًا من الذاكرة الجمعية المغربية. المشترك في هذه اللوحات هو التركيز على لحظة الأداء الفني، على الجسد وهو يعزف أو يغني أو يصفق أو يتفاعل. لكن الأكثر بروزًا هو هذه الوجوه المكشوفة، المتوهجة، التي لا تخشى الكاميرا، ولا تختبئ من النظرة، كأنها تُعلن: “أنا هنا، أشارك، أعيش، وأظهر”. في هذه اللحظة بالذات، يستحضر المشاهد ذلك المثل المغربي البليغ: “اللي كيشطح ما كيخبيش وجهو”. إنه أكثر من مجرد قول شعبي، بل هو مدخل لتأمل البنية الرمزية للظهور في الفضاء العام. الرقص والغناء، في الثقافة الشعبية، ليسا مجرد فعلين فنيين، بل هما إعلان وجود، مشاركة في الاحتفال الجماعي، انكشاف متعمد، تجاوز للخوف، واحتفاء بالجسد الذي لا يُخفي ذاته. في هذا السياق، يصبح الوجه ليس فقط واجهة حسية، بل مرآة للكينونة، ورمزًا لشرعية الوجود.
لكن المفارقة الكبرى في تجربة بلقاضي لا تتجلى فقط في الاحتفاء بهذا الظهور، بل في الغياب البصري الرمزي الذي يُمارَس ( عن وعي أو لا وعي ) أو في الذاكرة البصرية التي يُعيد تشكيلها. في لوحات أخرى للفنان، تظهر المرأة المغربية محجوبة الوجه، مخفية العينين، غائبة الملامح. أحيانًا يغيب الوجه كليًا، وأحيانًا يُختزل إلى جسد ملفوف، صامت، مموه، غير معني بالنظرة ولا بالحضور. هنا، يدخل الفن في منطقة التوتر: بين من يُسمَح له بأن يكون مرئيًا، ومن يُقمع حضوره البصري. من يحق له أن يمتلك وجهًا، ومن يُدفَع إلى الاختفاء خلف القماش أو العتمة. بلقاضي، وهو ابن الثقافة المغربية العميقة، يرسم بتقنية حديثة، لكنه يستبطن البُنى الرمزية التي تشكل الوعي الجمعي، حيث الرجل، خصوصًا في مقام العازف أو المؤدي الشعبي، يمتلك شرعية الظهور، بينما المرأة تُجرَّد من هذه الشرعية، حتى حين تكون حاضرة داخل المشهد الاجتماعي.
وهذا ما يفتح الباب أمام تأويل سوسيولوجي عميق. فالفن هنا لا يُكتفى منه بالمتعة البصرية، بل يُطلب منه أن يُفكر، أن يُسائل، وأن يُقلق. لماذا يُحتفى بوجه الرجل في المشهد الفني الشعبي بينما يُحجَب وجه المرأة؟ أليس هذا استنساخًا رمزيًا لبُنية مجتمعية أوسع، حيث يُنظر إلى الرجل كفاعل علني، وإلى المرأة كمفعول به، تُنزع عنها صفة الفرد ليُختزل حضورها في بُعد جمعي مجهول، صامت، أو على الأقل مؤطَّر؟
من خلال هذه المقاربة، يمكن القول إن بلقاضي يضعنا أمام اقتصاد رمزي للرؤية. الرؤية ليست محايدة. أن تُرى، أن تُرسم، أن يُعترف بك كوجه، هو مكسب اجتماعي وسياسي. وهنا نستحضر ما قاله ميشال فوكو حول السلطة والبصر: “من يُرى يمتلك السلطة، ومن لا يُرى يُقصى من اللعبة الرمزية للوجود”. وفي هذا المعنى، يصبح معرض “صدى المفرد” تمرينًا فنيًا في تفكيك العلاقات السلطوية داخل المشهد البصري، حيث تُنتج الرؤية خطابًا حول من يستحق أن يظهر، ومن يجب أن يُحجَب.
لوحات بلقاضي، بتكوينها الجماعي، لا تُظهر فقط لقطات من الحياة اليومية أو من التراث الشعبي، بل تُعيد تشكيل التراتبية الرمزية للظهور داخل الجماعة. ومن هنا، يصبح العنوان ذاته (مفرد الجمع) دالًا على المفارقة: كيف يمكن للفرد أن يكون مرئيًا داخل جماعة تمحو، أو على الأقل تهمّش، بعض أعضائها؟ إن الفنان، من خلال هذا المشروع، لا يعرض فقط مجموعة من اللوحات، بل يفتح فضاءً للتفكير في علاقة الجسد، الصوت، الوجه، والذاكرة الجمعية. فهو يرسم الشخصيات الشعبية، ليس كمجرد عناصر تراثية، بل كأجساد لها تاريخ، لها حضور، ولها مشروعية في أن تكون داخل المشهد العام.
ختاما، يمكن القول إن بلقاضي لا يقدم فقط عملًا فنيًا، بل مشروعًا بصريًا في النقد الثقافي، حيث تتقاطع السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، وجمالية الصورة، في سؤال جوهري: من يُرسم؟ ولماذا يُرسم؟ ومن يظل خارج الكادر، خارج الضوء، خارج الاعتراف؟ معرض “مفرد الجمع” ليس فقط فرصة لاكتشاف تجربة فنية مميزة، بل لحظة تأمل في عمق التمثيل الثقافي، في تلك الحدود الدقيقة بين ما يُرى وما يُخفى، بين ما يُقال وما يُسكت عنه، بين من يمتلك الحق في الوجه، ومن يُسلب حتى ملامحه.