في زمن تتسارع فيه معايير النجاح وتتنافس فيه الأسر على حجز مواقع متقدمة لأبنائها في سلم التفوق، يزداد الضغط النفسي والتربوي الذي يُمارسه الوالدان – بحسن نية غالبًا – على أبنائهم من أجل تحقيق إنجازات أكاديمية وعلمية. وتتحول هذه الضغوط أحيانًا إلى عبء ثقيل، خصوصًا عندما تقترن بمقارنات مجحفة مع الآخرين، أو حين يُفرض على الأبناء السير في مسارات لا تشبههم، لا تعبّر عن ميولاتهم، ولا تراعي قدراتهم الفعلية.
الضغوط الأسرية وآثارها النفسية
يدفع كثير من الآباء أبناءهم نحو التفوق ظنًا منهم أنهم بذلك يؤمّنون لهم مستقبلًا أفضل، متناسين أن التفوق لا يُقاس دومًا بالنتائج المدرسية أو بالمراكز العملية المرموقة. في هذا السياق، قد يواجه الإبن ضغطًا مستمرًا لإنجاز ما يُنتظر منه، لا ما يرغب هو في تحقيقه، مما يؤدي إلى الإحباط، القلق، وفقدان الثقة بالنفس. وقد يتفاقم هذا الشعور حين تُعقد عليه مقارنات دائمة مع زملاء أو أقارب يُنظر إليهم باعتبارهم “نموذجًا يُحتذى”.
المقارنة المجحفة: سلاح ذو حدّين
تُعد المقارنة بين الأبناء والآخرين واحدة من أخطر الأدوات التربوية السلبية. فبدل أن تدفعهم نحو التطور، تُشعرهم بالنقص وعدم الكفاية. وغالبًا ما ينسى الأهل أن لكل فرد مسارًا خاصًا، وقدرات متميزة، وأن التفوق في مجال ما لا يعني القدرة على التفوق في كل المجالات. تؤدي هذه المقارنات، في كثير من الأحيان، إلى فقدان الحافز، وانخفاض الأداء بدل تحسينه.
الإسقاط النفسي: حين يُفرض الحلم على غير أهله
من أكثر المظاهر خطورةً، أن يسعى بعض الآباء لتحقيق أحلامهم الشخصية المؤجلة أو الفاشلة من خلال أبنائهم. فيفرضون عليهم التخصص في مجال معيّن (كالطب، أو الهندسة، أو المحاماة…) رغمًا عنهم، دون اعتبار لميولاتهم أو شغفهم أو حتى كفاءاتهم. يتحول الإبن هنا إلى أداة تحقيق بدل أن يكون كيانًا مستقلًا له حريته وخصوصيته. وبدل أن تنمو شخصيته، يُصاب بانفصام داخلي بين ما يُطلب منه وما يرغب فيه، وقد يؤدي هذا إلى انسحاب دراسي، أو اكتئاب، أو تمرد أسري.
الحل في التوازن والإنصات
النجاح الحقيقي في التربية يكمن في مرافقة الأبناء لا في دفعهم أو سَوقهم. يحتاج الطفل إلى من يُنصت إليه، يُشجعه، ويؤمن به كما هو، لا كما يُراد له أن يكون. من الضروري أن يُمنح مساحة للاكتشاف والتجربة، وأن يُساند في بناء مشروعه الشخصي وفقًا لقدراته واهتماماته. فالدور التربوي لا يقتصر على التوجيه، بل يشمل الاحترام، الثقة، والدعم غير المشروط.
إن الأمل في مستقبل أفضل للأبناء لا يُبرر تجاوز حريتهم ولا إلغاء شخصيتهم. فلكل إنسان طريقه الخاص، ومهمّة الأهل ليست أن يزرعوا أحلامهم في أبنائهم، بل أن يساعدوهم على اكتشاف أحلامهم الخاصة. عندها فقط، يتحقق التفوق الحقيقي: تفوق الإرادة، والوعي، والانسجام مع الذات.
بقلم سعاد السبع