كريم بوزاليم
بقلم : الدكتور محمد العماري //
تشكل المدارس العتيقة في سوس تجسيدًا عميقًا لتقاليد متجذرة في التاريخ المغربي الإسلامي، لا باعتبارها مؤسسات تعليمية دينية فحسب، بل بوصفها فضاءات اجتماعية فاعلة، تنبثق من رحم المجتمع وتستجيب لحاجياته التربوية والروحية والمعيشية بطريقة تنم عن منطق اجتماعي متكامل يتجاوز التصنيفات الحديثة للعمل الاجتماعي. فمن خلال تتبع سيرورة هذه المدارس، سواء من حيث بنيتها المادية أو من حيث علاقاتها الإنسانية والرمزية، يظهر أنها تقوم بوظائف تتطابق بشكل دقيق مع ما يُعرف في الأدبيات الغربية الحديثة بالعمل الاجتماعي، وإن كانت بأسس مختلفة ومرجعيات مغايرة. فالطالب الذي ينقطع عن أسرته ليقصد مدرسة عتيقة نائية في جبال الأطلس الصغير أو في قرى السهول السوسية لا يُعامل كمتلقٍ للعلم فقط، بل يُحتَضن كفرد في حاجة إلى رعاية مادية ومعنوية، ضمن منظومة اجتماعية ترى في التكافل والمسؤولية الجماعية واجبًا دينيًا وأخلاقيًا في آن واحد.
لقد تميزت منطقة سوس منذ قرون ببنية مجتمعية فريدة، تقوم على التداخل بين الديني والاجتماعي، بين المحلي والرمزي، وبين الفردي والجماعي، حيث لم تكن العلاقة بين الإنسان والمجال علاقة نفعية محضة، بل كانت مبنية على قيم الاستمرارية والالتزام والانتماء. والمدرسة العتيقة، ضمن هذا النسيج، ليست بناية معزولة أو مؤسسة مغلقة، بل هي قلب نابض للحياة الجماعية، تتقاطع فيها مسارات مختلفة: طلبة ينشدون العلم، فقهاء يقومون بمهام بيداغوجية وتربوية، سكان محليون يساهمون بالزرع والزاد، ومحسنون يدعمون المدرسة من خلال الأوقاف أو الهبات، كلٌّ حسب قدرته، في مشهد يومي يفيض بالدلالات الاجتماعية العميقة. إن الطالب لا يدفع مقابلًا ماليًا للدراسة أو للإيواء، بل يُستقبل كما يُستقبل الضيف الكريم، وتُهيأ له ظروف التعلم والمعيشة في إطار يُعيد تعريف العلاقة بين المعرفة والمجتمع، بين الخدمة والتطوع، وبين الحاجة والاستجابة.
إننا إذا اعتبرنا أن من جوهر العمل الاجتماعي كونه ممارسة تروم التخفيف من معاناة الأفراد، وتسهيل إدماجهم الاجتماعي، وبناء روابط التضامن داخل الجماعة، فإن المدرسة العتيقة في سوس تحقق ذلك بأدواتها الخاصة، دون أن تحتاج إلى التبني الرسمي لهذه التسمية أو إلى الاستناد على معايير مهنية حديثة. فالطالب المنحدر من أسر فقيرة يجد في المدرسة العتيقة سكنًا ومأكلًا ومكانًا آمنًا، كما يجد فيها من يأخذ بيده ويوجهه، لا فقط في مجال المعرفة، بل في تفاصيل الحياة اليومية، من نظافة الجسد، إلى كيفية الأكل، إلى آداب المجلس، إلى ضبط السلوك. وهذه التربية المتكاملة لا تأتي من فراغ، بل من تصور مؤسسي ينظر إلى الفرد ككل، ويعامله ضمن مشروع طويل المدى يدمج العلم بالسلوك، والعبادة بالمعاملة، والانضباط بالرحمة. وفي هذا الإطار، يتحول الفقيه إلى موجه اجتماعي، إلى مرجعية أخلاقية، إلى حاضن رمزي لمن لا سند له، وهي وظائف تتطابق مع أدوار الأخصائيين الاجتماعيين في السياقات الحديثة، وإن اختلفت التسميات والآليات.
ومن اللافت أن هذا النسق ظل قائمًا، ويشتغل بفعالية، رغم التحولات العميقة التي عرفها المجتمع المغربي خلال العقود الأخيرة، سواء على مستوى التمدن، أو الانتقال القيمي، أو تراجع أنماط التضامن التقليدي. ففي وقت تآكلت فيه الكثير من أشكال الدعم المجتمعي في المناطق القروية، بسبب الهجرة والضغط الاقتصادي والانكفاء الفردي، ظلت المدارس العتيقة في سوس تحتفظ بقدرتها على امتصاص جزء من هذه الهشاشة، وعلى ضمان نوع من الحماية الاجتماعية الرمزية والعملية لطبقة واسعة من الشباب المهمش. وهذا دليل على أن العمل الاجتماعي، في مفهومه الواسع، لا يحتاج بالضرورة إلى بيروقراطية أو إلى لوائح قانونية كي يمارس أثره، بل يمكن أن ينبثق من توازنات تقليدية، من علاقات غير مكتوبة، ومن أعراف محلية تضع الكرامة الإنسانية في قلب الاهتمام الجماعي. وإذا كانت المدارس العتيقة تستند إلى الوقف كمصدر تمويلي أساسي، فإنها بذلك تُجسد فكرة “الاقتصاد الاجتماعي التضامني” في أحد أنقى صوره، حيث تُوظَّف الموارد لخدمة الجماعة، وتُدار في إطار أخلاقي لا يضع الربح في المقدمة.
وتتميز منطقة سوس، دون غيرها، بهذا النموذج المتكامل، بفضل قوة التماسك الاجتماعي، وعمق الانتماء الثقافي والديني، وارتباط الإنسان المحلي بأرضه وتاريخه. فالمدرسة العتيقة هناك ليست مؤسسة معزولة عن المجتمع، بل جزء من كيانه، يستحيل تخيله بدونها. فهي حاضرة في الذاكرة الجماعية، وفي الحكايات الشعبية، وفي الاحتفالات الدينية، وفي سير الأجداد. كما أن علاقتها بالمجال الجغرافي ليست علاقة عرضية، بل علاقة حيوية، إذ كثيرًا ما توجد هذه المدارس في مواقع استراتيجية: قرب منابع المياه، أو في مرتفعات مطلة على القرى، أو في قلب الأسواق الأسبوعية، مما يمنحها مركزية اجتماعية لا تقل أهمية عن مركزيتها الرمزية. هذه المدارس تتكامل مع المجتمع لا فقط من خلال المهام التعليمية، بل أيضًا عبر مشاركتها في تنظيم الحياة الجماعية: الفصل في النزاعات، تنظيم الجنائز، تأطير المواسم، المشاركة في إعانة المرضى، وغيرها من المهام التي تؤكد أن المدرسة ليست مجرد فضاء للعلم، بل فضاء للعيش المشترك، وللرعاية المتبادلة.
انطلاقًا من هذه المعاينة السوسيولوجية الميدانية، يصبح من المشروع (بل من الضروري) إدماج المدارس العتيقة في خانة العمل الاجتماعي، ليس كمجرد استعارة رمزية، بل كاعتراف نظري ومؤسساتي بدورها المحوري في إنتاج التضامن الاجتماعي، وتخفيف آثار الفقر، ومواجهة الإقصاء. وهذا الاعتراف لا يقتصر على منحها الشرعية، بل يفتح أفقًا علميًا لفهم أنماط الحماية الاجتماعية في المجتمعات التقليدية، والاعتراف بذكائها الجماعي، وقدرتها على خلق حلول محلية نابعة من البيئة نفسها، دون استعارة نماذج خارجية قد لا تستجيب لخصوصيات السياق. وفي زمن تعاني فيه مجتمعات كثيرة من فقدان المعنى ومن انحلال الروابط الاجتماعية، تقدم المدرسة العتيقة في سوس درسًا عميقًا في كيفية بناء مجتمع على أساس العطاء، والاحترام، والمرافقة، لا على أساس المردودية أو النجاعة المجردة.
إن المدرسة العتيقة في سوس ليست بقايا ماضٍ مجيد، بل هي فاعل اجتماعي حيّ، يُمارس، يوميًا، العمل الاجتماعي في أبسط وأعمق معانيه: الاستماع، والتكفل، والتكوين، وإعادة الاعتبار للأفراد، من خلال العلم والدين والتأطير. وإن إنصاف هذه المؤسسة يتطلب من الباحثين والممارسين الاجتماعيين على حد سواء إعادة النظر في مفاهيمهم، وتوسيع دوائر التحليل لتشمل ما هو محلي، أصيل، وفاعل. فليست الحداثة هي القطيعة مع التقليد، بل القدرة على رؤيته من زاوية جديدة، تُعيد الاعتبار إلى حكمة المجتمعات، وإلى قدرتها على الإبداع ضمن شروطها الخاصة.